آخرُ المواضيع

العَمَلُ رُكنٌ فِي الإيمانِ

 
 
 
العَمَلُ رُكنٌ فِي الإيمانِ
 
 
 * السؤال:
 
1- ما الفرقُ بين تارك العمل بالكليَّة، وبين من ترك فردًا من أفراد العمل؟
 
2- هناك من استدلَّ بإجماعٍ للمتأخّرين مِن أهلِ السُّنَّة على تَكفير المُرجئَة، ما قَولُكم في ذلك؟
 
3- قال بعضُهم أنّ علمَ البلاغةِ وضع قواعدَه الأشاعِرة، فهل هذا الأمرُ صحيحٌ؟ 
 
 
 * الجواب:
 
- بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاَةُ وَالسَّلَاَمُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ، نَبِيَّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
 
1/- تَارِكُ العملِ بالكُلِّيَّةِ هذا كافرٌ بإجماعِ المسلمينَ، لأنّهُ لم يأتي بالإيمانِ الشّرعيِّ الّذي دلَّ عليه كتابُ اللّهِ -عزَّ وجلَّ- وَسنّةُ نبيّهِ ﷺ والّذي نصّ عليهِ أئمّةُ الدّينِ -رحمهم الله-.
 
← قال الله تعالىٰ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ﴾{143| البقرة}.
-> عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: مَاتَ قَوْمٌ كَانُوا يصلون نحو بيت المقدس فقالوا: فَكَيْفَ بِأَصْحَابِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}. قَالَ: صَلاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ
- وَرُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَسَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَابْنِ زَيْدٍ، نَحْوُ ذَلِكَ.(۱)
 
سمَّى ربُّنا -تبارك وتعالىٰ- العملَ إيمانًا؛ وهذا مَسلكٌ مِن المسالكِ في كتابِ اللّهِ -عزَّ وجلَّ- في بيانِ أنَّ الإيمانَ مركّبٌ مِن قولٍ وعملٍ، وأنّ العملَ ركنٌ فيه مادام أنَّ ربَّنا -سبحانه- سمَّى الصّلاةَ إيمانًا كان هذا مِن أدلِّ الدّليلِ على أنَّ العملَ ركنٌ في الإيمانِ.
 
- وكذلك ما ذكرَ اللّهُ -عزَّ وجلَّ- في كتابهِ الكريمِ مِن الجمعِ بين الإيمانِ والعملِ الصّالحِ؛ منها أحَجُّ آيةٍ استدلَّ بها أهلُ السُّنّةِ والجماعةِ على أهلِ البدعةِ مِن المُرجئةِ وهي قولهُ تبارك وتعالىٰ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾{البينة |5}.
 
وقد ذكرَ ذلك كلّهُ الآجُرِّيُّ في الشّريعةِ فاليُراجَع فإنّهُ مهمٌّ نفيسٌ.
 
- وكان ممّا قالهُ الآجُرِّيُّ في الشّريعةِ -رحمه الله- أن قال: َ"ثُمَّ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا تُجْزِئُ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَلْبِ وَالتَّصْدِيقُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ بِاللِّسَانِ نُطْقًا، وَلَا تُجْزِيءُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ، وَنُطْقٌ بِاللِّسَانِ، حَتَّى يَكُونَ عَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، فَإِذَا كَمُلَتْ(۲) فِيهِ هَذِهِ الثَّلَاثُ الْخِصَالِ: كَانَ مُؤْمِنًا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ، وَالسُّنَّةُ، وَقَوْلُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ".(۳)
 
هذا في تركِ العملِ بالكُلّيّةِ.
 
- وأمّا تركُ فردٍ مِن أفرادِ العملِ فهذا يجبُ فيه الدّليلَ الخاصُّ؛ وهذا هو الفرقُ.
 
”الفرقُ بين تركِ العملِ بالكُلّيّةِ أنّ ذلك مناقضٌ للكتابِ والسّنّةِ وإجماعِ علماءِ المسلمينَ، وأمّا تركَ فردٍ مِن أفرادِ العملِ؛ هذا التّكفيرُ بهِ إنّما يكونُ بدليلٍ خاصٍّ، كتركِ الصّلاةِ مثلًا فإنَّ المسألةَ فيها نصوصٌ خاصّةٌ كقولهِ ﷺ: "الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ"(٤). وقولهِ ﷺ "إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ"(٥)، وقولِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: "وَلَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ"(٦)
 
فهذا هو الفرقُ بين تاركِ العملِ بالكُلِّيَّةِ وبين تركِ فردٍ مِن أفرادِ العملِ.
 
2/- بما أنّ الإجماعَ مُنعقدٌ على تبديعِ المُرجئةِ، وأنّهم مُبتدعةٌ ضُلاّلٌ(٧)، وهو إجماعٌ مُتقدّمٌ فلا يُزاحمُه إجماعٌ مُتأخّرٌ مهما كان، وحكاهُ مَن حكاهُ.
 
ولهذا فإنّ مَن كفّر المُرجِئَة (مخطئٌ) وَالْآجُرِّيُّ وَابْنُ بَطَّةَ وَابْنُ حامدٍ (وهو مِمَّن كَفَّر الطّوائفَ كلَّها) مُخطئونَ -ولا ضررَ في هذا، ولا ينقصُ مِن أقدارِهِم عند أهلِ السُّنَّة-.
 
- ومن اعتقدَ قولاً لزمهُ تَخطِئة غَيره، ثمّ مسائلُ التَّخطئةِ درجاتٌ: فيه الخطأُ الّذِي تَحفظُ معه كَرَامة الرّجلِ ويبقى من أهلِ السُّنَّة، وفيه ما يُغلَّظُ عليه ويُرَدُّ عليه مع بقاءِ اسمِ الإسلام والسُّنَّة، وفيه ما يُبدَّعُ ويُهجرُ، وفيه ما يُكفّرُ.
 
ومن اعتقدَ قولًا ولم يُخطِئْ غيرَهُ في مالم يَكُن قولهُ فقد صَوَّبَ رأيَ غيرِه؛ ولا يقولُ بتصويب الأقوالِ كلّها إلّا الأَشْعَرِيَّة، وقَبلَهم عُبَيْدِ اللَّهِ العَنْبَرِيِّ فقد كان يرى (ثم رجعَ) أنّ كلّ مجتهدٍ مُصيبٌ.
 
3/- هذا الكلامُ كذبٌ بَيِّنٌ ظاهرٌ؛ وهو غيرُ صحيحٍ البَتَّةَ.
 
- وغالبُ من يُشيعُ هذه الكَذباتِ أشاعِرةٌ يريدونَ بذلك الانتصارَ لمذهبِهِم الكُفريِّ أو مَن يَلتمِسُ المَعاذيرَ للأشاعِرةِ (الّذين يروْنَ أنّ الأشاعِرةَ منْ جُملةِ المسلمينَ ويروْنَ أنّ لهم فضلًا في خدمةِ دينِ اللّهِ -تبارك وتعالىٰ- من جهةِ عنايتِهِم باللُّغةِ وهكذا عنايتُهُم بالأصولِ والتّفسيرِ).
 
وحقيقةُ الأمرِ أنّ عنايتَهُم بهذه العلومِ إنَّما هو لأجلِ بَثِّهِم عقائدَهُم الفاسدَةِ وإلّا فهو تخريبٌ وإفسادٌ لهذه العلومِ لمن عرفَ السُّنّةَ وعرفَ طريقةَ أهلِ السّنّةِ في الأصولِ والتّفسيرِ والعقائدِ والحديثِ وغيرِ ذلك؛ ومن المعلومِ كذلك عند أهلِ التّوحيدِ والأثر أنّ الأشاعِرةَ ومن اعتذرَ لهم كفّارٌ زنادقةٌ وشرُّهم عظيمٌ وبلاؤُهُم كبيرٌ.
 
- وهذه الكلمة الّتي نقلها الأخُ عمّن قالها فهي كذبٌ كما ذكرتُ، ذلك أنّ أوّل من وضعَ أُسُسَ علمِ البلاغةِ واستنبطَ قواعدَها هو "سِيبَوَيْه" في كتابه "الكتاب"؛ وسِيبَوَيْه -رحمه الله- إمامٌ مِنْ أئمّةِ السّنّةِ واللُّغَة وقد ذكروا في ترجمته أنّه كان على طريقةِ أهلِ السّنّةِ والجماعةِ، ومِمّا يُلزمُ به هؤلاء الكذبةِ قولُ أشعرِيٍ مُقدّمٌ عندهم ألا وهو "الشاطبيُّ" فإنّه ذكر أنّ "سِيبَوَيْه" هو مُستنبِطُ علمِ البلاغةِ كما في كتابه الّذي أسماهُ "بالمُوافقاتِ"(۸)، وشهدَ شاهدٌ من أهلِها.
 
- ومن المعلوم مِن طريقة "سِيبَوَيْه" ولمن خَبرَ كتابهُ وتأمَّلَه وقلَّبهُ بين يديهِ، أنّ هذا الكتَاب يَشتملُ على الإعرابِ الّذي هو (النحو) ويَشتملُ على البلاغة كذلك، قد أشارَ لهذا المعنَى جماعةٌ مِن البلاغِيِّينَ.
 
بل إنّ من الأشاعِرةِ أنفُسِهِم من يرى أنّ عِلْمَ النَّحْوِ بمعناهُ العامِّ يَشملُ عِلْمَ الإعرابِ ويَشمل عِلْمَ البلاغةِ وهذا إنْ دلَّ على شيءٍ فإنّما يدلُّ على فضلِ كتاب "سِيبَوَيْه" وعلى عظيمِ منزلتهِ، لذلك قَالَ الْجَرْمِيُّ: "أَنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً أُفْتِي النَّاسَ فِي الْفِقْهِ مِنْ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ".(۹)
 
”إذا قرأَ الرّجلُ هذه الكَلِمة لرُبَّما اِستَعْظَمَها ولربّما اِستَغْربَها ولكنّ الرّجلَ إذا خَبَر هذا الكتابَ وعرَف شيئًا يسيرًا مِنه أدرك أنّه موسوعةٌ يحتاجُهُ الفقيهُ في جوانبَ كثيرةٍ في بابِ الفقهِ؛ ذلك أنّ هذا الكتابَ حَوَى النَّحْوَ وهو أَصلُ وَضعِ الكتابِ وحوَى عِلْمَ الصّرفِ كذلِك وأُصولَ البلاغةِ وعِلْمَ التّجويدِ وغيرَ ذلك فقد اشتملَ على مَجموعةٍ من العلومِ وهذه العلومُ يَخدِمُ بَعضُها بعضًا وهي جميعًا تخدِمُ عِلْمَ الفقهِ“
 
- ثمّ لو سلّمنا جدلًا أنّ عِلْمَ البلاغةِ وضعَهُ أهلُ الأهواءِ (من بابِ التَّسليمِ) فإنّه لن يكونَ للأشعريَّةِ فيه قَدمُ السّبقِ، لأنّ المُعتزِلةَ الْجَهْمِيَّة سابقونَ لهم في الكلامِ حولَ هذا العِلْمِ منهُمْ مثلًا الأخْفَشُ والجاحِظُ وغيرُهُما فقد تكلَّموا في صفاتِ اللّهِ -عز وجل- وفي القَدَرِ بالمَجازِ (في ما يُسمّونهُ بالمَجازِ).
 
وهذا يدلُّ على أنّ هذا المُتكلّمِ لم يعرفْ تاريخَ هذا العِلْمِ أصلًا بل لم يَعرفْ حتّى أقوالَ هذه الطّائفةِ الأشعريّةِ الكافرةِ الّتي يُعْلِي مِن شأنها بدفاعِهِ أو بذِكْرِ مَناقبِها فيما يزعمُ، واللّهُ المستعانُ ولا حول ولا قوّة إلّا باللّهِ.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
۱- أخرجَهُ اِبْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ برقم (1347) والطَّبَرِيُّ (2224)].
 
۲- قولهُ رحمهُ اللّهُ "فَإِذَا كَمُلَتْ فِيهلا على اصطلاحِ المُرجئةِ والمتأخّرينَ، بل هذا اصطلاحٌ أثريٌ سلفيٌ يُعبّرونَ بالكمالِ على الرُّكنيّةِ.
 
۳- [كتاب الشريعة للآجري | ج2 ص611].
 
٤- أخرجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي سُننِهِ برقم (2621)، وأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
 
٥- أخرجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ (82)، وأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِه (15183).
 
٦- [كتاب الشريعة للآجري | ج2 ص648].
 
 
۸- كتاب الموافقات لذاك الجهمي| ج5 ص 53]
 
۹- وقال: سمعت أبا بكر بن شُقَير يقول: حدثني أبو جعفر الطبري قال: سمعتُ الجَرْمىَّ يقول: "أنا مُذْ ثلاثون أُفتِى الناس في الفقه من كتاب سيبويه". [مقدمة "الكتاب" لسيبويه | ج1 ص6]. 
 
 
 
 
 وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين.