التّدرُّجُ في معرفَةِ مذاهبِ أهلِ السّنّةِ؛ في معرفَةِ فِقهِهِمْ وكلامِهِمْ والمأثورِ عَنْهُمْ.
التّدرُّجُ في معرفَةِ مذاهبِ أهلِ السّنّةِ؛
في معرفَةِ فِقهِهِمْ وكلامِهِمْ والمأثورِ عَنْهُمْ.
* السؤال:
1- شرعتُ في حفظ مصنفِ ابن أبي شيبَةَ -رحمه اللّه- فبماذا تنصحني؟
2- هل يحفظُ الطَّالبُ "بلوغ المرام" لابن حجرٍ؛ أم يحفظُ "المحرَّرَ" لابن عبد الهادي، وأيُّهما أفضَلُ؟
* الجواب:
- بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاَةُ وَالسَّلَاَمُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ، نَبِيَّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
1/- أمّا مُصَنَّفُ اِبْنِ أَبِي شَيْبَةَ فهو أحَدُ دواوينِ الإسلامِ الكبارِ حتّى سمّاهُ من سمّاهُ من الأئمّةِ "بكِتابِ الإسلامِ"؛ وهذَا الكتابُ يَذكرُ فيه مُؤَلِّفُهُ -رحمة اللهِ عليه- فِقْهَ أهلِ الحديثِ وأقاويلَ الصّحابةِ والتّابعينَ -رضي اللهُ عنهم- واِختلافِهِمْ واِتّفاقِهِمْ بالأسانيدِ إليهِمْ وفوائدُهُ وعوائدُهُ كثيرَةٌ وَفِيرَةٌ شهيرَةٌ.
• لكنَّ منَ الخطأِ البَيِّنِ والغلطِ الواضحِ الّذِي لا يختلفُ فيه اثنان أن يُنْصَحَ الطّالبُ بِالْبُدَاءَةِ بهذا الكتابِ ومن الغلطِ الّذي يُضَافُ إلى الغلطِ الأوَّلِ أَنْ يُنْصَحَ بحِفْظِ هذا الكتابِ.
”ذلك أنَّ هذا الكتابَ كتابٌ مَوسوعِيٌّ كبيرُ وهو ديوانٌ وسِفْرٌ واسعٌ، فالطّالبُ المُبتدأُ لا يُنْصَحُ بمثلِ هذهِ الكتُبِ في اِبْتِدَاءِ تعلُّمِهِ وفي اِبْتِدَاءِ حِفْظِهِ ودرسِهِ، بل لا بُدَّ له منَ التّدَرُّجِ فيبدَأُ بالكتُبِ المُخْتَصَرَةِ وبالمتونِ المُعْْتَصَرَةِ حِفظًا وَدرسًا واسْتِظهارًا وشرحًا ثمّ يرتقِي شيئًا فشيئًا“
- ومسألةُ الحِفْظِ منَ المسائِلِ الّتي قد طُوِيَ بساطُهَا، بمعنى أنَّ الحُفّاظَ لسُنّةِ رسولِ اللهِ ﷺ بالأسانيدِ ومعرفةِ العِللِ والرِّجالِ وفِقْهِ أحاديثِهِ ﷺ والنَّظرِ في آثارِ الصّحابةِ والتّابعِينَ -رضي اللهُ عنهم- هذا طُوِيَ بِساطُهُ، ونسألُ اللهَ -عزوجل- أنْ يُعيدَ في المسلمينَ من يعتنِي بهذا البابِ ويُعْطيهِ حَقَّهُ ويُرْزَقُ فيه ذلك الفضلَ العظيمَ.
- وَلكنْ لابُدَّ للطّالبِ منَ الحِفْظِ ولابُدَّ له من الفهمِ، فلابُدَّ أنْ يجمعَ بينَ طريقتينِ في معرفةِ الفِقهِ؛ وهي طريقَةُ المسائِلِ وطريقةُ الدّلائلِ.
”والأخُ يريدُ معرفَةَ فِقهِ أهلِ الحديثِ منْ خِلال أحاديثِهِ ﷺ؛ ولابُدَّ أنْ يُعْلَمْ أَنّ الكتابَ الأصل في هذا البابِ وهو الجَمْعُ بَيْنَ أحاديثِهِ ﷺ وبينَ كلامِ الفُقهاءِ، فيكونُ كلامُ الفُقهاءِ كالشَّرحِ لحديثِهِ ﷺ، الكِتابُ الأصلُ في هذا هو "مُوَطَّأُ" الإمامِ مالكٍ؛ هو الّذي جمعَ بينَ الفِقهِ والحديثِ، وكذلكَ "جَامِعُ سُفْيَانَ" يَذكرُ فيه كلامَ الفُقهاءِ، ومِن الكُتبِ النّفيسةِ البدِيعةِ في هذا البابِ "جَامِعُ التِّرْمِذِيِّ" فإنّهُ كتابٌ فذٌّ حتّى أنّ "أبا إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيّ" فَضَّلَهُ على الصّحيحَينِ لسُهولتِهِ ويُسرِهِ وإدراكِ الفائدةِ منهُ بطريقٍ مُختصَرٍ، فيَذكرُ حديثَ رَسولِ الله ﷺ ويُعْقِبُهُ بكلامِ فُقهاءِ الأمصارِ كمالكٍ والشّافعيِّ وإسحاق وَأحمَدَ، ويَذكرُ العِللَ والكُنَى والتّخريجَ وغيرَ ذلك ممّا هو معلومٌ في جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ“
- وذِكْرُ كلامِ الفُقهاءِ مع حديثِ رسول الله ﷺ كان الإمامُ أحمدَ يَكرَهُ ذلك ويُنْكِرُهُ كما نقلَ "اِبْنُ رَجَب"ٍ في شرحِ عِلَلِ التِّرْمِذِيِّ(۱) حتّى أنّه أَمرَ بتجريدِ أحاديثِ "المُوَطَّأِ" وَآثارهِ عمّا فيه مِن الرّأي الّذي يَذكرُهُ مَالِكٌ منْ عِندِهِ، كما كَرِهَ أحمدٌ -رحمة الله عليه- أن يُكْتَبَ مع الحديثِ كلامٌ يُفسِّرهُ ويشرَحُهُ، ولكِنْ عند بُعْدِ العهدِ بِكلامِ السّلفِ وطُولِ المُدّةِ واِنتشارِ كلامِ المُتأخِّرينَ في معاني الحديثِ والفِقهِ انتشارًا كثيرًا لما يُخَالِفُ كِلامَ السّلفِ الأُوَّلِ تَعَيَّنَ ضبطُ كلامِ السّلفِ من الأئمّةِ وجَمعُهُ وكتابَتُهُ والرُّجوعُ إليه؛ وذلك لعِلَّةٍ هي عِلَّةٌ فاصلةٌ بين فِقهِ أهلِ الحديثِ وبينَ فِقهِ غَيرِهِمْ، وهي أن يَتميَّزَ بهذا الجمعِ ماهو المأثورُ عَنهُمْ مِمّا أُحْدِثَ بَعدَهُمْ مِمّا هو مُخَالِفٌ لهم، وقد نَدِمَ "عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن مَهْدِي"ّعلى أنّه لم يَكْتُبْ عَقِبَ كُلِّ حديثٍ مِن حديثِهِ تَفسِيرَهُ.
• عمومًا؛ قُلت الأصْلُ الأوَّلُ "مُوَطَّأُ" الإمامِ مَالِكٍ، ثمّ يُعْقِبُهُ الطَّالبُ "بِجَامِعِ" التِّرْمِذِيِّ، ثُمّ يَنظُرُ في "سُنن" أَبِي دَاوُدَ الّذِي كان كالمُصْحَفِ لأهلِ الحديثِ، هذا التّدرُّجُ في معرفَةِ مذاهبِ أهلِ السّنّةِ؛ في معرفَةِ فِقهِهِمْ وكلامِهِمْ والمأثورِ عَنْهُمْ.
- ولا يُغْفِلْ طريقةَ المسائِلِ هذه لابُدَّ للطّالب أَنْ يختارَ مذهبًا مِن مذاهبِ أهلِ الحديثِ كمذهبِ الشَّافِعِيِّ أو مذهبِ مَالِكٍ أو مذهبِ أَحْمَدَ، فيأخُذُ متنًا مُخْتََصَرًا في المسائِلِ مثلًا في مَذهبِ مَالِكٍ يَأخذُ "مَتْنَ الرِّسَالَةِ" لِأَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ فيَحفَظُهُ ويَستظْهِرُهُ ويَعتَني بشرحِهِ وفَكِّ عباراتِهِ، ومثلًا في فِقهِ الإمامِ أَحْمَدَ "مُخْتَصَرُ الْخِرَقِيِّ"، وهكذا فيجمعُ بين الطّريقتينِ.
”هذا الّذي ذَكرتُهُ سابقًا منْ لُزومِ العِنايةِ بِمُوَطَّأِ مَالِكٍ ثمّ بَعدَهُ بِجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ ثُمّ بَعدَهما بسُنن أَبِي دَاوُدَ، هذا إذا كان الطَّالبُ حافِظًا "لِعُمْدَةِ الْأَحْكَامِ" للحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيِّ وحافظًا "للمُحَرَّرِ" لِاِبْنِ عَبْدِ الهَادي، وإلّا فلابُدَّ له أنْ يُتْقِنَ هذينِ الكتابيْنِ حفظًا واِستظهارًا ومُذاكرةً وفِقهًا ثُمّ بعد ذلك يرتقي إلى الدّرجةِ الّتي ذكرت“(۲)
• أمّا مُصَنَّفُ اِبْنِ أَبِي شَيْبَةَ لطالبٍ مُبتدِئٍ، فهذا غِشٌّ له وتَغْرِيرٌ ومَن نَصَحَهُ بهذا فقد غَشَّهُ.
2/- لا يُشْرَعُ الطّالبُ في أحدِ هذينِ الكتابيْنِ إلّا بعدَ حِفْظِهِ العُمْدَة "عُمدةَ الأحكامِ" للحَافِظِ عَبْدِ الغَنِيِّ المَقْدِسِيِّ -رحمه اللَّه تعالى-؛ وهو متنٌ مشهورٌ بينَ الطّلبة يَبدءُونَ به فِي حِفْظِ أحاديثِ الأحكامِ ، وهو مجموعٌ منْ الأحاديثِ المُتّفَقِ عليهَا الّتي رواهَا البُخاريُّ ومسلِمٌ في صحِيحَيهِما اللّذيْنِ هما أصَحُّ الكتُبِ المُصَنَّفَةِ.
- فإذا بدأَ بالعُمدَةِ فأَتقنَها حِفظًا كان ذلك أَدْعَى لضَبْطِ ما بعدهَا فلا يَعْسُرُ عليه الكَشفُ عنْ تخريجِ حديثٍ من الأحاديثِ الّتي أوْدعَها عَبدالغَنِيِّ المَقْدِسِيّ عُمْدَتَهُ.
• ولا يَحْسُنُ بالطَّالبِ أبدًا أنْ يُجاوِزَ هذه المرحلةِ لمَا بعدَها بل لابُدَّ له من البُدَاءَةِ بالعُمدَةِ ثمّ بعدَ ذلك يَنتَقِلُ إلى المُحَرَّرِ "المحرَّرُ فِي الحديثِ" لمُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الجُمَّاعِيلِي الصَّالِحِيّ المشهورُ "بابنِ عَبْد الهادي".
▪ ولا أنصَحُهُ بالبُلُوغِ "بُلُوغُ المَرامِ" لِابْنِ حَجَرٍ؛ وذلك لأمورٍ:
- الأوّلُ: أنّ ضلالَ ابْنِ حَجَرٍ أقبَحُ مِن ضلالِ ابْنِ عَبدِ الهَادِي؛ وابْنُ حَجَرٍ مِن رؤوسِ الأشْعَرِيَّة.
• وهذا شيءٌ معلومٌ معرُوفٌ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والأثَر.
- الثَّانِي: أنّ أحكامَ ابْنِ حَجَرٍ الحديثِيَّةِ مُخالِفَةٌ لمَنهجِ المُتقدِّمينَ.
• هذا بخلافِ أحكامِ ابْنِ عَبْدِ الْهَادِي الّتي أوْدَعهَا كتابهُ المُحَرَّر.
▪ ومِن ذلك مثلًا:
أ/- مارُوِيَ مِن حديثِ أبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا إلى رسولِ اللَّهِ ﷺ؛ "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ".
- قالَ ابْنُ حَجَرٍ في بُلوغهِ بعدَ هذا الحديثِ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَسَنٌ.(۳)
• والحقُّ أنَّ التِّرْمِذِيَّ رواهُ ولمْ يُحَسِّنُه.
- وقالَ التِّرْمِذِيُّ عَقِبَ إخراجِهِ لهذا الحديثِ؛ قالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.(٤)
• والغرِيبُ في اصطِلَاحِ التِّرْمِذِيّ يُطلَقُ عندَهُ على الحديثِ الّذِي فيه ضَعْفٌ، وهذا الحدِيثُ حديثٌ مُنْكَرٌ؛ وتفصِيلُ ذلك في مَوضعهِ، وقد خرّجَهُ ابْنُ رَجَبٍ في "جَامِعِ الْعُلُوم وَالْحِكَم"ِ تخريجًا جيّدًا فاليُراجَع(٥).
ب/- ما رُوِيَ مِن حديثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مرفوعًا إلى رسولِ اللَّهِ ﷺ؛ "مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا؛ فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ".
- قالَ ابْنُ حَجَرٍ بعدَ روايَتِهِ لهذا الحديثِ؛ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ!(٦)
• فعوّلَ ابْنُ حَجَرٍ على تَصْحِيحِ "ابنِ حِبانَ" الجَهمِيِّ وكلاهُمَا لا يُعَوَّلُ عليه في هذا الباب ولا في أبوابِ الِاعتقادِ، والحديثُ على أُصولِ الأئمّةِ النُّقّادِ حديثٌ مُنكرٌ؛ كما نقلَ التِّرْمِذِيُّ عَن البُخَاريِّ في العلَلِ(٧)، وكذلك اِستنكرَهُ أَبُو حاتمٍ(۸) كما في عِللِ وَلَدِهِ عَبْدالرَحْمَنِ "ابن أبي حاتمٍ".
ج/- أنَّ ابْنَ حَجَرٍ يَعْزُو بعضَ الأحاديثِ في بُلوغهِ إلى غَيرِ مصادرِهَا فوقع في أوهامٍ؛ كعَزوِهِ حديثَ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- مَرفوعًا إلَى رسولِ اللَّهِ ﷺ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ- قَالَ: «تَغْتَسِلُ».
- قالَ ابْنُ حَجَرٍ: مُتَّفَقٌ عَلَيْه.(۹)
• وهذا الحديثُ ليسَ مُتّفقًا عليه، إنّما هو عندَ مُسْلِمٍ فقط دُونَ الْبُخَارِيِّ.(۱۰)
د/- وكحديثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ».
- قالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.(۱۱)
• وليسَ هذا الحديثُ عندَ التِّرْمِذِيِّ، إنّما رواهُ مُسْلِمٌ في صَحيحِهِ.(۱۲)
هـ/- سكوتُهُ عَن بعضِ الزّياداتِ المُنكَرَةِ، وهكذَا سكوتُهُ عَن أحاديثَ لا يَصِحُّ في بابِها شيءٌ.
”وأمّا كتابُ "المحرَّرِ" لِابْنِ عَبْدِ الْهَادِي فهو كتابٌ جيّدٌ جدًّا وهو الّذي يَعتنِي به الطّالبُ كما ذكرتُ بعدَ عُمدَةِ الأحكامِ للحافظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيّ؛ وقد يَعْسُرُ عليه حِفظُهُ في بعضِ المواضعِ لأنَّه في بعضِها يَذكرُ الأسانيدَ وَبعض الْخلافِ في الرّواةِ ويَذكرُ أسماء بعض الرّوَاة وكلامِ الأئمَّة في تخريجِ حديثٍ ما ولكنّهُ بعدَ سِنينَ إذا اعْتنَى به حقَّ العِنايةِ فإنّه سيجدُ ثمرةً عظيمةً في عِلْمِ العِللِ وتَتكوَّنُ عندَه لَبَنِةٌ وركيزةٌ متينةٌ فِي هذا العِلْمِ الشّريفِ؛ الّذي هو أشرَفُ أنواعِ العُلومِ الحدِيثِ، كما أنّ كتابَ المُحَرَّرِ أمْتَنُ مِن "بلوغِ المرامِ" لِابْنِ حَجَرٍ، وَأحكامُ ابْنِ عَبْدِ الْهَادِي تَجرِي على أُصولِ المُتقدِّمينَ“
- وهو كتابٌ مُنتخَبٌ مُخْتصَرٌ مُرتّبٌ كما قال ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي في مُقدِّمتِهِ؛ قَال: «فَهَذَا مُخْتَصر يشْتَمل عَلَى جملَة من الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، انتخبته من كتب الْأَئِمَّة الْمَشْهُورين والحفاظ المعتمدين...وَذكرت بعض من صحّح الحَدِيث أَو ضعفه، وَالْكَلَام عَلَى بعض رُوَاته من جرح أَو تَعْدِيل، وَاجْتَهَدت فِي اختصاره وتحرير أَلْفَاظه، ورتبته عَلَى تَرْتِيب بعض فُقَهَاء زَمَاننَا ليسهل الْكَشْف مِنْهُ، وَمَا كَانَ فِيهِ مُتَّفقا عَلَيْهِ فَهُوَ مَا اجْتمع البُخَارِيّ وَمُسلم عَلَى رِوَايَته، وَرُبمَا أذكر فِيهِ شَيْئا من آثَار الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أَجْمَعِينَ..».(۱۳)
و/- ومَن النّماذجِ الّتي فاقَ فيها المُحرَّرُ البلوغَ، ما ذكرَهُ مُحقِّقَا المُحَرَّرِ (وهو فِي الكتابَينِ) مِن حديثِ عَائِشَةَ -رضي اللَّه عنها- قَالَت: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً".
- قالَ ابْنُ حَجَرٍ في بُلوغهِ: وَهُوَ مَعْلُولٌ.(۱٤)
• فَاكتفَى بهذا القَدرِ.
- وأمّا ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي فقَال: وَعَن أبي إِسْحَاق السبيعِي عَن الْأسود عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قَالَت: " كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ينَام وَهُوَ جنب من غير أَن يمس مَاء" رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه، وَالنَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيّ،وَقَالَ -يعني التِّرْمِذِيّ-: (يرَوْنَ أَن هَذَا غلط من أبي إِسْحَاق). وَقَالَ يزِيد بن هَارُون: (هَذَا الحَدِيث وهم). وَقَالَ أَحْمد: (لَيْسَ صَحِيحا)، وَصَححهُ الْبَيْهَقِيّ وَغَيره. وَقَالَ بعض الحذاق من الْمُتَأَخِّرين (أجمع من تقدم من الْمُحدثين وَمن تَأَخّر مِنْهُم أَن هَذَا الحَدِيث غلط مُنْذُ زمَان أبي إِسْحَاق إِلَى الْيَوْم، وَعَلَى ذَلِك تلقوهُ مِنْهُ وَحَمَلُوهُ عَنهُ وَهُوَ أول حَدِيث أَو ثَان مِمَّا ذكره مُسلم فِي كتاب التَّمْيِيز لَهُ مِمَّا حمل من الحَدِيث عَلَى الْخَطَأ) وَرَوَى أَحْمد من حَدِيث شريك عَن مُحَمَّد عَن عبد الرَّحْمَن عَن كريب عَن عَائِشَة قَالَت: "كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َيجنب ثمَّ ينَام ثمَّ ينتبه ثمَّ ينَام وَلَا يمس مَاء". (وَإِسْنَاده غير قوي).(۱٥)
• والكلامُ في هذا كثيرٌ، يعنِي في المُقارنةِ بينَ "بلوغِ المرامِ" لِابْنِ حَجَرٍ و"المحرَّرِ" لِابْنِ عَبْدِ الْهَادِي وَلو جُمِعَ في جزءٍ مكتوبٍ لَما كان كثيرًا، ولكِن كما قِيلَ "حَسْبُكَ مِن الْقِلَادَةِ مَا أَحَاطَ بالعُنُقِ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
۱- [ كتاب شرح علل الترمذي| موقف الإمام أحمد من ذكر كلام الفقهاء مع الحديث| ج1 ص345].
۳- [كتاب بلوغ المرام من أدلة الأحكام لذاك الجهمي الأشعري| رقم (1489) ج1/ص448].
٤- رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ في سُننه برقم (2317).
٥- [جامع العلوم والحكم| ج1/ص287].
٦- المصدر السابق [رقم (1383) /ج1 ص419].
٧- قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: هَذَا مُنْكَرٌ. [رقم 589| كتاب: علل الترمذي الكبير].
۸- قَالَ أَبِي: هَذَا حديثٌ عِنْدِي موضوعٌ بِهَذَا الإِسْنَادِ.[رقم 2197| كتاب علل الحديث لابن أبي حاتم].
- وفي المسألة رقم (2570) قال أبو حاتم: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ بِهَذَا الإِسْنَادِ.
۹- المصدر السابق [رقم (111) /ج1 ص34].
۱۰- رَوَاهُ مُسْلِمٌ (310).
۱۱- المصدر السابق [رقم (390) /ج1 ص115].
۱۲- رَوَاهُ مُسْلِم (748).
۱۳- [المحرر في الحديث | ج1 ص79].
۱٤- المصدر السابق [رقم (118) /ج1 ص36].
۱٥- [المحرر في الحديث |رقم (123) / ج1 ص139].
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين.