آخرُ المواضيع

فضيلة النبي ﷺ؛ وأثر مجاهد في الجلوس

 
  

فَضِيلَةُ النَّبِيِّ ﷺ؛ وَأثَرُ مُجَاهِدٍ فِي الجُلُوسِ

 
 * السؤال:
 
 
▪ يقول: بعض الناس يضعف أثر مجاهد في القعود، ويقول أن قواعد الحديث تقضي بضعفهِ، وأنّ حجّة المتقدمين أقوىٰ، فما الجوابُ عن هذا الكلام؟
 
 
 * الجواب:
 
- بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاَةُ وَالسَّلَاَمُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ، نَبِيَّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
 
هُناك أمرَانِ:
 
- الأوّلُ: أنّ أثرَ مُجَاهِدٍ ممّا قَبِلَهُ أهلُ السّنّةِ والجماعةِ.
 
- الثاني: أنّ أئمّةَ الحديثِ المُتقدِّمِينَ أعلَمُ بقواعِدِ الحديثِ من هذا الّذي يقولُ أنّ قواعدَ الحديثِ تقضِي بضَعْفِهِ؛ بلْ إنّ المُتأخِّرين الأصلُ أنْ يُتَابِعُوا المُتقدِّمِينَ فِي كلِّ حديثٍ صحَّحوهُ وفي كلِّ حديثٍ ضعَّفوهُ، وإذا كان هناك خِلافٌ بينَ المُتقدِّمِينَ في حديثٍ صحّحهُ بعضُهم وضَعَّفه بعضهم فإنّ هذا محلُّ بحثٍ ونظرٍ، ولَا يجوزُ للمُتأخِّرِ أن يتقدَّمَ بينَ أيديهِم ولَا أن يُقعِّدَ قواعدَ مُخالِفةً لقواعدِهِمْ ولا أن يَضْرِبَ قواعِدهُمْ ولا أن يتّهِمَهُم أصلًا فإنَّ هذا الكَلامَ في سُؤالِ السّائلِ إزرَاءٌ بالمُتقدِّمِينَ.
 
* من قَعَّدَ قواعِدَ الحديثِ؟!
 
أهلُ الحديثِ هم من قَعَّدُوا هذهِ القواعدَ.
 
* فكيف تَعاملُوا مع هذا الأثرِ الّذي جاءَ في قولهِ تعالَىٰ﴿عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾{79| الإسراء}؛ عن مُجَاهِدٍ "يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى عَرْشِهِ"(۱)، هل قَبِلوهُ أم رَدّوهُ؟!
 
الجوابُ؛ أنّهُمْ قَبِلوهُ، وهمْ أعلَمُ بقواعدِ التَّحْدِيثِ وأعلَمُ بعللِ الحديثِ وبالمَقبولِ منهُ والمَردودِ.
 
← قَالَ الخلال: وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْخَفَّافَ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مُصْعَبٍ يَعْنِي الْعَابِدَ يَقُولُ: "نَعَمْ، يُقْعِدُهُ عَلَى الْعَرْشِ لِيَرَى الْخَلَائِقُ مَنْزِلَتَهُ".(۲)
 
بل إنّ أهلَ الحديثِ كفّرُوا من ردَّهُ؛ مَنْ ردَّ هذهِ الفضيلةِ ومَنْ طعنَ فيهَا ومَنْ لم يقبِلْهَا فإنّهُمْ كفّروهُ.
 
* فهلْ يُرَتِّبُونَ التّكفيرَ على حديثٍ فيه ِضَعفٌ أو لا يَصِحُّ أو مُنْكَرٌ كما يقولُ بعضُهم.
 
فالجوابُ؛ لا وألفُ لا.
 
← فقد قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: "مَنْ رَدَّهُ فَقَدْ رَدَّ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ كَذَّبَ بِفَضِيلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ".(۳)
 
بل هذا الحَديثُ لا ترُدُّهُ إِلَّا الزّنادقةُ.
 
← قال عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً: "حُكْمُ مَنْ رَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَنْ يُنْفَى، لَا يَرُدُّ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا الزَّنَادِقَةُ".(٤)
 
← قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ "وَمَا يُنْكِرُ هَذَا إِلَّا أَهْلُ الْبِدَعِقَالَ هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ: "هَذَا حَدِيثٌ يُسَخِّنُ اللَّهُ بِهِ أَعْيُنَ الزَّنَادِقَةِ".(٥)
 
وإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- هو إمامٌ من أئمّةِ اللّغةِ والسّنّةِ؛ وهذا يَدُلُّكَ على أنّ الأثرَ لا مُنْكَرَ فيه أصلًا لا من جهةِ اللّغةِ ولا من جهةِ السّندِ:
 
أ/- أمّا مِن جهة اللُّغة: قَالَ الله تعالَىٰ﴿عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾{79| الإسراء}؛ قَال مُجَاهِدٌ: «يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى الْعَرْشِ».
 
* هل من مَعاني (الاِسْتِوَاءِ) في اللُّغةِ القُعُودُ والجُلُوسُ؟
 
الجوابُ؛ نعم بمعنَى أنّهُ مَعْنًى مُسْتَقِرٌّ لغةً لا يُمكِنُ رَدُّهُ ولا دفعُهُ ولا إنكارُهُ، حتّى ولو أنكَرنا الحديثَ بمعنَى أنّهُ لا وُجودَ لهذا الأثرِ أصلًا؛ يَبقَى المَعنى اللّغوِيُّ ثابتٌ لا يُمكِنُ رَدُّهُ لأنّهُ منْ معاني (الاِسْتِوَاءِ).(٦)
 
أهلُ الحديثِ يَنظرونَ إلى الآثارِ الوارِدَةِ منْ جهاتٍ عدَّةٍ، لا يَنظرونَ إلى ظاهرِ السّندِ كما يفعَلُ الألبَانِيُّ وجمَاعتُهُ؛ فيهِ فُلانٌ عنْ فلانٍ، فُلانٌ ضَعِيفٌ إِضْرب على الأثرِ! هذهِ ليستْ طريقَةُ أهلِ الحديثِ أصلًا.
أهلُ الحَديثِ لهم تَعاملٌ معَ أحادِيثِ رسولِ اللهِ ﷺ ولِهم تعامُلٌ مع أقوَالِ الصّحابةِ والتّابعينَ -رضّيَّ اللهُ عنهُمْ-، فهم ينظُرونَ إلى البابِ؛ هذا بابُ العقيدَةِ، هذا بابُ التّفْسِيرِ، هذا بابُ فضَائِلِ الأعمَالِ إلَى آخره، ثمّ تحتَ كلِّ بَابٍ فَيُشَدِّدُونَ في بابٍ دونَ بابٍ ويَقبلُونَ منْ رَاوٍ في بابٍ ما لا يَقبلونَهُ في بابٍ غَيْرِهِ، ثمّ في كلِّ بابٍ يَتعامَلونَ مع كلّ حديثٍ بعَيْنِهِ وبِرأسِهِ فلا يُطلِقونَ هذهِ الإطلاقاتِ الّتي اُبْتُلِيَ بها المُتأخّرونَ
 
 ب/- أمّا من جهةِ السّندِ: الأثَرُ جاء عن لَيْثٍ بْن أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ بْن جَبْرٍ في تأويل قوله تعالَىٰ﴿عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾{79| الإسراء}.
 
* المُضَعّفُ ماذا يفعلُ؟
 
يأتِي إلى السّندِ يقولُ فيه (ليْثُ بْن أَبِي سُلَيْمٍ) وهوَ مُجْمَعٌ على ضَعْفِهِ "اِضْربْ على الأثَرِ"!
 
- أمّا أهلُ الحَديثِ الّذِين أجمَعُوا على أنّ لَيْثَ بْن أَبِي سُلَيْمٍ ضَعِيفٌ هم أنفُسُهُمْ قَبِلوا هذا الحديثَ وهم كفَّرُوا من رَدَّهُ وجَهَّمُوهُ ورَمَوْهُ بالزّندقةِ وأنّهُ جَهْمِيٌّ وأنّ هذا الأثرَ ممَّا "يُسَخِّنُ اللهُ بِهِ أَعْيُنَ الزَّنَادِقَةِ" و "أَنْ يُنْفَى" ...هكذا قالوا.(٧)
 
- هذا اللّيثُ بْن أَبِي سُلَيْمٍ -يا عِباد الله- يا من ترُدُّونَ هذا الأثرَ الّذي قَبِلَهُ أهلُ الحديثِ جميعًا؛ اللَّيْثُ بْن أَبِي سُلَيْم لا يروِي شيئًا لَا فِي الأحكامِ ولا في غَيْرِهِ، بل إنّهُ يُخْبِرُ عن مُعْتَقَدِهِ في قُعُودِ اللهِ تبارَكَ وتعالَىٰ وجُلُوسِهِ، وأنّ لرسولِ اللهِ ﷺ فَضِيلَةً من ردّها وكذّب بها فقد كفرَ بالله العظيمِ.
 
وثبوتُ جُلُوسِ اللهِ تباركَ وتعالَىٰ ثابتٌ في أحاديثَ قَبِلَهَا العُلماءُ كحديثِ عَبْدِاللَّهِ بْن خَليفَة عن عُمَرَ بْن الخَطَّابِ -رضّيّ اللهُ عنه- وغَيْرِهِ من الأحاديثِ الّتي رواهَا أهلُ السّنّةِ في كتبِ السّنّةِ (العَقِيدَة) كالسّنّةِ لِعَبْدِاللهِ(۸).
 
- ثمّ إنّ الأثَرَ في بابِ التّفسيرِ، قال الإمامُ أحمد: "ثلاثةُ كتُبٍ لَيْسَ لَهَا أُصولٌ: المغازي، وَالمَلاَحِمُ، وَالتَّفْسِيرُ"(۹)، بِمعنى أنّ الأسانيد الّتي يُرْوَى بها التّفسِيرُ عن الصّحابةِ والتّابعينَ ليستْ بتلكَ القوّة الّتي تُرْوَى بها أحاديثُ الأحكامِ مثلًا، وهذهِ إعتبارات يعتبِرُهَا أهلُ الحَديثِ في النّظرِ في كلِّ حديثٍ وفي كلّ أثرٍ.
 
وأمّا هذه الطّريقةُ الّتي يستَعمِلهَا هؤلاءِ في رَدِّ الآثارِ والأحاديثِ فهي طريقةُ الزّنادقَةِ وليست بِطريقَةِ أهلِ السّنَّةِ في شَيْءٍ.
 
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
۱- قَالَ الطَّبَرِيُّ: حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي، قال: ثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، في قوله (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) قال: يُجْلسه معه على عرشه. [تَفْسِيره (ج17 ص529)].
 
۲- ۳ -٤ -٥ -٧ (الآثار): [السنة لأبي بكر بن الخلال| ذِكْرُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ| ج01/ص209].
 
٦- قَالَ الْفراء: وَقَالَ ابْن عَبَّاس: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} : صَعِد، وَهَذَا كَقولِك للرجل: كَانَ قَائِما فاستوَى قاعِداً، وَكَانَ قَاعِدا فاستوَى قَائِما وكُلٌّ فِي كَلَام العَرَب جَائِز. [كتاب تهذيب اللغة للأزهري| ج13/ص85].
 
٧- قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن أحمد: "سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ جَمَاعَةٍ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ يُنْكِرُهُ، وَكَانَ عِنْدَنَا فِي وَقْتٍ مَا سَمِعْنَاهُ مِنَ الْمَشَايِخِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا تُنْكِرُهُ الْجَهْمِيَّةُ، وَأَنَا مُنْكَرٌ عَلَى كُلِّ مَنْ رَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ".
 
• وقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، وَذَكَرَ حَدِيثَ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: "هَذَا حَدَّثَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ فَكَمْ تَرَى كَانَ فِي الْمَجْلِسِ، عِشْرِينَ أَلْفًا، فَتَرَى لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا قَامَ إِلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ : لَا تُحَدِّثْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، أَوْ أَظْهَرَ إِنْكَارَهُ، تَرَاهُ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثَمَّ إِلَّا وَقَدْ قُتِلَ".
 
۸- قَالَ عَبْدُ اللَّه ابْنُ أَحْمَدَ في السنة (585) (587): حَدَّثَنِي أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «إِذَا جَلَسَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى الْكُرْسِيِّ سُمِعَ لَهُ أَطِيطٌ كَأَطِيطِ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ».

- حَدَّثَنِي أَبِي، نا وَكِيعٌ، بِحَدِيثِ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «إِذَا جَلَسَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْكُرْسِيِّ» فَاقْشَعَرَّ رَجُلٌ سَمَّاهُ أَبِي عِنْدَ وَكِيعٍ فَغَضِبَ وَكِيعٌ وَقَالَ: أَدْرَكْنَا الْأَعْمَشَ وَسُفْيَانَ يُحَدِّثُونَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَا يُنْكِرُونَهَا.

۹- [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب| (2/162)].
 
 
 
 
 وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين.